
Interview with a member of the Arab and Muslim community who supported and participated in the Gaza solidarity encampment.
أنا امرأة متزوجة وأم لطفلين من أصول لبنانية وسورية. أعيش حاليًا في أستراليا. أحب القراءة والانخراط في الأعمال المجتمعية. هويتي العربية جزء أصيل من تكويني لكن ارتباطي بالقضية الفلسطينية هو الامتداد الأعمق لهويتي. فقد تربّينا منذ الصغر على محبة فلسطين ومعرفة مكانتها الدينية والروحية باعتبارها أرض الإسراء والمعراج وفيها المسجد الأقصى ثالث الحرمين أولى القبلتين وثالث الحرمين. هذا الارتباط لم يكن مجرد معرفة نظرية، بل كان إحساسًا وجدانيًا مترافقًا مع الشعور الدائم بالشوق لزيارتها والصلاة في المسجد الأقصى
منذ طفولتي ارتبطت فلسطين في وعينا بالظلم والصمود. كنّا نسمع دائمًا عن معاناة الشعب الفلسطيني وعن الاحتلال الصهيوني الذي حرمهم من أرضهم وبيوتهم وحقهم الطبيعي في الحياة الكريمة. ومع غياب وسائل الإعلام المتاحة اليوم كان وصول الحقيقة إلينا محدودًا ومع ذلك كانت فلسطين حاضرة في بيوتنا ووجداننا من خلال ما يرويه الكبار وما تبثّه نشرات الأخبار القليلة في ذلك الوقت. أتذكر بوضوح حادثة استشهاد محمد الدرة التي كانت من أوائل المشاهد المصوّرة التي وصلت إلى العالم وأثّرت فينا بعمق. رأيناه على شاشات التلفاز محاصَرًا بين يدي والده يُستهدف بلا رحمة. كان ذلك المشهد صادمًا لنا كأطفال لأنه كشف للعالم ما كان الفلسطينيون يعانونه منذ عقود لكنه بالنسبة إلينا لم يكن جديدًا في جوهره. كنا نعرف عن الظلم لكننا لأول مرة رأينا صورته الحقيقية أمام أعيننا بلا وسائط ولا نقصٍ في الرواية. هذا الارتباط بفلسطين لم يكن مجرد تعاطف، بل كان جزءًا من شعور روحي وديني أيضًا فقد نشأنا على حب المسجد الأقصى والرغبة في الصلاة فيه وعلى الإحساس بأن أرض فلسطين مباركة وأن زيارتها حق روحي قبل أن يكون حقًا سياسيًا أو إنسانيًا. غير أننا في طفولتنا كسوريين أو لبنانيين كنا نعلم أن الوصول إليها مستحيل بسبب الاحتلال فبقيت الزيارة أمنية تتكرر في القلب أكثر مما تتكرر على الألسن
عشتُ في طفولتي أجواء الحرب في لبنان، وكانت تلك التجربة المبكرة مدخلًا آخر لفهم الظلم والعدوان. عندما كنّا نزور لبنان في الإجازات كانت الغارات الإسرائيلية تستهدف المناطق المدنية وتخلّف دمارًا وخوفًا في نفوس الناس. بالنسبة إلينا كأطفال لم تكن الصورة النظرية عن الاحتلال الصهيوني فقط هي ما شكّلت وعينا، بل التجربة الملموسة التي رأيناها بأعيننا من أصوات القصف والبيوت المهدّمة والناس الذين يجبرون على النزوح. ومع الوقت ترسّخ لدينا أن هذا الظلم ليس استثناءً، بل منهجًا مستمرًّا كما امتدّ دوره إلى سوريا أيضًا بطرق مباشرة وغير مباشرة سواء عبر الاحتلال أو من خلال التحالفات التي أسهمت في زعزعة استقرار المنطقة. كبرنا ونحن نرى هذا النمط المتكرر. حيثما يكون التدخل الصهيوني أو الغطاء الأمريكي يكون الخراب أشدّ والظلم أوسع. لهذا لم تكن القضية الفلسطينية بالنسبة إلينا حدثًا منفصلًا عن واقعنا العربي، بل كانت تشبه الجذر الذي تفرّعت عنه أوجاع كثيرة في المنطقة. رأينا الاحتلال في فلسطين، ثم رأينا نتائجه في لبنان وسوريا، فصار الإحساس بالقضية امتدادًا طبيعيًا لإحساسنا بحياتنا وذاكرتنا. ليس تعاطفًا من بعيد، بل خبرة عشناها من الداخل
عندما انتقلتُ إلى أستراليا وجدت مساحة أوسع من الحرية في الحياة العامة والمجتمع المدني، ولكن في المقابل اكتشفت أيضًا أن هذه الحرية ليست مطلقة، خاصة داخل نطاق العمل المؤسسي الحكومي. فهناك سياسات واضحة تمنع الموظفين من التعبير العلني عن مواقف سياسية أو إصدار أي تصريحات يمكن تفسيرها على أنها “منحازة” لقضية معينة حتى على وسائل التواصل الاجتماعي. منذ اليوم الأول في العمل نُبّهنا إلى أن الحياد السياسي شرط إلزامي وأن التعبير العلني عن التضامن مع فلسطين، حتى لو كان إنسانيًا وأخلاقيًا قد يُعدّ مخالفة. بل قيل لنا صراحة إن حرية التعبير داخل المؤسسات الحكومية “مقيّدة” بحكم القانون وإن أي موقف علني يمكن أن يعرّض الموظف للمساءلة أو فقدان الثقة المهنية. بالنسبة لي كان هذا صادمًا فقد تساءلت أين مساحة الإنسان بوصفه ضميرًا وقيمًا؟ وكيف يمكن الفصل بين الهوية والموقف الأخلاقي؟ ثم أدركت أن هذه القيود لا تمنع التضامن نفسيًا أو وجدانيًا لكنها تجعل التعبير عنه داخل بيئة العمل محفوفًا بالحذر والخشية من العواقب. لذلك شعرت أن دعم القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتحقق داخل الإطار الرسمي لكنه يظل ممكنًا وواجبًا خارج أسوار المؤسسة وبين الناس وفي المجتمع وفي الفعل المدني التطوعي
خارج بيئة العمل الرسمية أشعر بمساحة أرحب للتعبير عن رأيي خصوصًا حين أكون بين أفراد المجتمع أو في الأنشطة العامة. في أستراليا ورغم وجود قيود مؤسساتية داخل الوظائف الحكومية إلا أن المجال المجتمعي أوسع وأكثر مرونة ويمكن للإنسان أن يكون صريحًا في تضامنه ومواقفه الأخلاقية. من خلال مشاركتي في المظاهرات والفعاليات التضامنية شعرت بأن صوتي يجد طريقه الطبيعي وأن الانحياز للعدل ليس ترفًا، بل مسؤولية. وقد رأيت على أرض الواقع كيف يمكن للحراك الشعبي مهما بدا بسيطًا أو محدودًا أن يخلق أثرًا، حتى لو كان هذا الأثر تدريجيًا. فالتغيير لا يحدث في ليلةٍ وضحاها، بل يتراكم وينمو من مبادرات صغيرة تتحول مع الزمن إلى حركة مؤثرة. هذا الانخراط عزّز قناعتي بأن الدعم الحقيقي لا يقوم فقط على الشعارات، بل على المشاركة العملية والوقوف بجانب المظلوم وإسناد المبادرات الشبابية وتحويل التضامن من شعور داخلي إلى فعل ملموس. ومن هنا بدأت علاقتي بالمخيم الطلابي وقررت أن يكون لي دور فعّال فيه
عندما بدأت الإبادة الجماعية في غزة تتصاعد شعرنا جميعًا بالعجز أمام حجم المأساة. كنا نتابع الأخبار والدموع تسبق الكلمات لكن لم نكن نعرف كيف نحول هذا الألم إلى فعل. حتى المشاركة في المظاهرات رغم أهميتها لم تكن كافية لتهدئة الشعور الداخلي بأننا مطالبون بالمزيد. ومع الوقت بدأ المخيم الطلابي يشكل ملمحًا جديدًا من المقاومة المدنية، طلاب يقضون لياليهم في العراء تحت المطر والبرد صامدين لأجل قضية لا تخصهم قوميًا، بل إنسانيًا. هذا المشهد حرّك في داخلي شعورًا عميقًا بالمسؤولية. قلت لنفسي هؤلاء الشباب تركوا دفء بيوتهم لأجل الحق… فكيف نقف متفرجين؟ من هنا ولدت الفكرة. إذا كانوا هم يقفون في الخط الأمامي فنحن واجبنا أن نسندهم ليس من باب العمل الخيري، بل من باب الواجب الأخلاقي والوقوف المتبادل. بدأت أسأل كيف ينامون في البرد؟ كيف يتعاملون مع الجوع أو التعب؟ من يمدّهم بالطعام؟ وكانت تلك الأسئلة بمثابة نقطة التحول. سرعان ما أدركت أن تقديم الطعام ليس مسألة لوجستية فحسب، بل رسالة أننا لسنا متضامنين مع الطلاب من بعيد… نحن جزء من المخيم الطلابي. أطلقت الفكرة داخل مجموعة صغيرة من النساء العربيات وتوقعت مشاركة محدودة. لكن المفاجأة كانت أن الإقبال كان واسعًا ومتحمسًا حتى قبل أن تتبلور الآلية النهائية. وكأن الناس كانوا ينتظرون فقط من يفتح لهم الباب نحو المشاركة العملية
بعد انتشار الفكرة بين النساء في المجتمع تحوّل الحماس الأولي إلى التزام حقيقي فقد فوجئت بأن عشرات السيدات قدّمن أنفسهن للمشاركة فورًا وأصبح من الواضح أن المبادرة لم تعد مجرد مساهمة عابرة، بل عملاً جماعيًا يحتاج إلى تنظيم وتنسيق. قمنا بوضع جدول مناوبات بحيث تتكفّل كل مجموعة بيوم محدد وتجهّز الوجبات بحسب الحاجة. ثم حدّدنا أنواع الأطعمة المناسبة، خصوصًا تلك التي تمنح الدفء والطاقة، وتُظهر روح البيت والاهتمام مثل المجدّرة والكشري والمندي والشوربات الساخنة، وغيرها من الأطباق العربية التقليدية. ومع الوقت، لم يعد الأمر مجرد توصيل الطعام، بل أصبح صلة إنسانية مباشرة. كثير من المتطوعات فضّلن تسليم الطعام بأنفسهن في المخيم ليشعر الطلاب بأنهم ليسوا وحدهم. فالمبادرة حملت بُعدين في آن واحد أولهما دعم مادي ومعيشي من خلال الطعام وثانيا الدعم المعنوي والأخلاقي من خلال الوجود والتواصل والاهتمام المباشر. هذه الروح الجماعية كانت السبب الأساسي في نجاح الحملة فلو بقيت مجرد مبادرة فردية لما استمرت. لكن كونها عملاً يجمع القلوب قبل الأيدي جعلها تتوسع وتترسّخ وتصبح جزءًا من الحياة اليومية للمخيم
مع مرور الوقت لم تبقَ المبادرة مجرد وسيلة دعم للمخيم، بل أصبحت مساحة للتعارف والتلاقي بين أشخاص لم يكن يجمعهم سابقًا لا اللغة ولا الخلفية الثقافية ولا حتى الدين. كان الطعام بوابةً إلى بناء علاقة إنسانية أعمق قائمة على الاحترام المتبادل والاهتمام الحقيقي. شعرت بأننا كمجتمع عربي ومسلم أصبحنا أقرب إلى هؤلاء الطلاب ليس لأننا نقدّم لهم المساعدة، بل لأننا تشاركنا معهم القيم نفسها كالدفاع عن المظلوم والوقوف في وجه الظلم والإيمان بأن للإنسان كرامة لا تُساوم. بدأت أتعرف إليهم أكثر وأتعلم عن حياتهم وتجاربهم وهم كذلك تعلّموا عن ثقافتنا وعاداتنا وطريقتنا في التعبير عن التضامن. كانوا يشعرون بالامتنان لكن في الحقيقة كان الأثر الذي تركوه فينا أكبر مما قدّمه الطعام نفسه فقد أعادوا إلينا الثقة بأن التضامن الإنساني حين يكون صادقًا يتجاوز الحدود والهويات. ومن أجمل ما وُلد عن هذه العلاقة هو الحوار. كنا نلتقي ونتحدث ليس فقط عن فلسطين، بل عن تجارب الإنسان ومعاني العدالة والمقاومة ومفهوم الوقوف مع الحق. صار المخيم مساحة فكرية وثقافية بقدر ما كان مساحة احتجاجية وسياسية. وهكذا تحوّل الدعم المادي إلى رابطة قلبية، وعادت إلينا مشاعر الألفة والانتماء للجماعة ليس بوصفنا داعمين فحسب، بل شركاء في الهمّ والإرادة والأمل
رغم الطابع السلمي الواضح للمخيم واجه الطلاب ضغوطًا كبيرة من قيادة الجامعة ومن الجهات الأمنية داخل الحرم. لم يكن الضغط ماديًا فقط، بل كان معنويًا ولوجستيًا أيضًا بهدف إنهاكهم أو دفعهم للتراجع تدريجيًا. فكلما استقرّ موقعهم تدخلت الإدارة بحجة “السلامة” أو “القوانين الداخلية” للجامعة مطالبةً إياهم بتغيير المكان أو تعديل ترتيبات الإقامة. كان هذا أشبه بمحاولة تفريغ الاعتصام من معناه عبر إرهاق القائمين عليه. ومع ذلك التزم الطلاب بقدر كبير من الانضباط والسلمية. لم تسجّل داخل المخيم أي حوادث شغب أو عنف أو اعتداء، بل كانت الأنشطة هادئة، موسيقى بسيطة وحوار وقراءة ورسم أو لعب هادف… ومع ذلك استمرت الجامعة في التعامل معهم كما لو كانوا تهديدًا. حتى عناصر الأمن أنفسهم ومع مرور الوقت بدأوا يشعرون بالتعاطف فقد رأوا بأعينهم أن هؤلاء الطلاب ليسوا سوى شباب مسالمين يدافعون عن العدالة. وأتذكر أن أحد الحراس قال لي ذات يوم سرًّا “نحن معكم لكننا مجبرون على تنفيذ التعليمات.” هذا الموقف الصغير كان شاهدًا على أن الحق حين يكون واضحًا يصل إلى القلوب، حتى لو كانت الأوامر حائلة. إلا أن الضغط كان مستمرًا، استدعاءات وإنذارات غير مباشرة وتهديدات بتفكيك الموقع وحتى تغيير إجباري للمكان. ورغم هذه العقبات صمد الطلاب صمودًا لافتًا وتحملوا البرد والشتاء والتهديد الإداري بروح عالية لأنهم لم يروا اعتصامهم مجرد وقفة احتجاجية، بل موقفًا أخلاقيًا لا يمكن التراجع عنه

لم يكن المخيم مجرد مجموعة خيام في ساحة الجامعة، بل تحوّل إلى رمز للصمود الأخلاقي وإلى مساحة يعاد فيها تصحيح السردية حول فلسطين. فقد ساهم في تفكيك الصورة المضلِّلة التي سادت لسنوات في الغرب والتي كانت تقدّم الفلسطيني كـمعتدٍ أو مثير للعنف بينما الاحتلال الصهيوني يصوَّر كضحية. في المخيم رأى الكثيرون الواقع الحقيقي، شباب مسالمون وملتزمون بالقيم الإنسانية يحتجون دفاعًا عن حق شعب مظلوم لا بدافع عداء أو تحريض. إحدى أهم ثمرات المخيم كانت إعادة تثقيف المجتمع الجامعي حول القضية الفلسطينية لا من خلال الخطاب الإعلامي، بل عبر الاحتكاك المباشر مع الطلبة والنقاشات والحوارات المفتوحة. كان للمخيم أثر تربوي وتوعوي قبل أن يكون سياسيًا. كذلك حقق المخيم بعدًا رمزيًا قويًا أنه بقي قائمًا رغم الضغوط. وهذا وحده رسالة أن الصوت الذي يدافع عن العدالة لا يمكن إسكاتُه بسهولة. وإلى جانب الرمزية وُجد أثر عملي ملموس، قيادة الجامعة اضطرت ولو تحت الضغط إلى فتح النقاش حول الاستثمارات المرتبطة بالاحتلال والشركات المتورطة في جرائم الحرب والبدء بمراجعة سياساتها بشأن قطع العلاقات أو إعادة النظر فيها. هذا التحول ولو كان في بدايته يحمل دلالة مهمة أن الحراك الشعبي حين يكون منظمًا وجذريًا وأخلاقيًا قادر على دفع المؤسسات للتحرك ولو ببطء. المخيم بهذا المعنى لم يكن مجرد فعل احتجاجي، بل منعطفًا للوعي السياسي داخل الجامعة، أعاد للقضية إنسانيتها وأعاد للمجتمع الطلابي ثقته بقدرته على التأثير وذكّر الجميع بأن فلسطين ليست قصة بعيدة، بل قضية عالمية تمتحن ضمائر البشر
من بين المواقف الكثيرة التي لا تزال حاضرة في ذاكرتي تلك اللحظات التي شعرنا فيها بأن المجتمع اتّحد حول المخيم ليحميه. أتذكر يومًا وصل فيه تهديد بجلب الشرطة لاعتقال الطلاب بالقوة إذا لم يغيّروا موقعهم مع حلول الصباح فانتشر الخبر بسرعة وجاء الناس ليلاً ونهاراً واصطفّوا حول المخيم في حلقة بشرية لحمايته. كان المشهد مؤثرًا للغاية، أناس من خلفيات مختلفة لم يجمعهم شيء سوى الإيمان بأن الوقوف مع المظلوم واجب. كما لا أنسى جلسات تعليم العربية حين بدأ بعض الطلاب الأجانب ينطقون كلمات بسيطة بالعربية ثم حاولوا استخدامها في التحية أو الامتنان. كانت تلك اللحظات الصغيرة تحمل معنى كبيرًا فالقضية لم تعد بعيدة أو نظرية، بل أصبحت جسرًا ثقافيًا وإنسانيًا. وهناك كذلك الذكريات الدافئة المرتبطة بالأمسيات الممطرة حين كنا نطمئن على الطلاب ونقوم بالدعاء لهم ونشعر بهم كما لو كانوا أبناءنا. لم تكن مجرد رعاية لوجستية، بل وجدانية وإحساس بالأهلية والانتماء. هذا القرب خلق روابط حقيقية. لم يعد طلاب المخيم بالنسبة إلينا مجرد ناشطين، بل أشخاصًا نحبّهم ونستمد منهم الإلهام. كانوا بالنسبة لنا نموذجًا للشجاعة في زمن الخوف ولم نستطع إلا أن نقابل شجاعتهم بالعطاء
من أجمل ما حملته هذه التجربة هو أن الطعام تحوّل إلى لغة مشتركة، وإلى وسيلة لتعريف الآخرين بتراثنا وثقافتنا وقيمنا. فالكثير من الطلاب كانوا يتعرّفون لأول مرة على المأكولات العربية المنزلية تلك التي تحمل دفء البيوت وكرم الضيافة الذي نشأنا عليه. لم يكن الطعام مجرد وجبة، بل رسالة محبة أن هذه نكهات بيوتنا... وهذا جزء من هويتنا... ونحن نشارككم به لأنكم أصبحتم جزءًا من عائلتنا الإنسانية. أكثر الأطباق التي أحبّها الطلاب كانت المجدّرة لأنها بسيطة وفي الوقت نفسه مشبعة ودافئة إضافة إلى الكشري والمندي وشوربة العدس التي كانت بالنسبة لهم علاجًا من البرد قبل أن تكون مجرد طعامًا. مرور الوقت جعل تلك الأطباق جزءًا من ذاكرة المخيم، تمامًا كما أصبح المخيم جزءًا من ذاكرتنا نحن. لقد كان لهذه الجلسات حول الطعام أثر ثقافي عميق والتعريف بفلسطين لم يكن فقط عبر الحديث عن الاحتلال الصهيوني والظلم، بل عبر الاحتفاء بالإنسان وبالحياة والكرم والعطاء وهي قيم تَنسِف الرواية الزائفة التي حاولت لسنوات تصوير الشعوب العربية ككيانات غاضبة أو عنيفة. فجأة أصبحت فلسطين حاضرة على الطاولة كما هي حاضرة في الوجدان
بعد كل هذه الشهور أشعر أن المخيم لم يكن مجرد حدث عابر، بل محطة روحية وإنسانية غيّرت فينا الكثير. فقد أعاد لي هذا العمل الإيمان بأن التضامن الحقيقي لا يحتاج إلى شعارات كبيرة ولا إلى منابر رسمية، بل إلى قلوب صادقة ترى الظلم وترفض الصمت. لقد شعرت خلال هذه التجربة بأننا عدنا إلى قيمنا الأولى كالعطاء بلا مقابل والوقوف مع الحق والمسؤولية تجاه الإنسان قبل أي انتماء آخر. أما الطلاب فقد رأيت فيهم نموذجًا نادرًا للشجاعة والمثابرة. صمدوا في وجه البرد والضغوط والتهديد ليس لأنهم يبحثون عن صدام، بل لأنهم يدافعون عن معنى العدالة. أشعر اليوم بأن هناك خيطًا صار يربطني بهم وبالقضية أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي. فالمخيم لم يكن تضامنًا من الخارج، بل مشاركة وجدانية من الداخل. كان بمثابة جسر جمع بيننا وبينهم على مستوى أعمق، ومستوى القيم، والإنسانية، والوعي. وأؤمن أن هذه التجربة ستبقى حاضرة في الذاكرة لأنها كانت فعلًا نقيًا خالصًا ومحفورًا في الصدور قبل السطور. وربما لم نستطع أن نغيّر العالم لكننا على الأقل أثبتنا لأنفسنا أولًا أن الشعور بالعجز ليس نهاية الطريق وأن أبسط أشكال العطاء يمكن أن تصبح بذرة تغيير كبير إذا حملتها نية صادقة
